شظــايـا
قصص قصيرة
حيـاتي
كانت السماء ملبدة بالسحب الداكنة ، وكان ثمة نورسان أبيضان حزينان يحلقان عند الأفق، يبحثان عن الأسماك التي تصعد إلى سطح البحر. سرت على الرمال وحيدا، لا أسمع إلا صوت الأمواج الصاخبة التي تهاجم الشاطئ.
عثرت على خوذة جندي غطتها طحالب البحر الخضراء، وعلى بعد أمتار قليلة ، رأيت جثثا ملقاة على الرمال، مشبعة بالماء المالح ، ممزقة الثياب ، جثثا لجنود ورجال ونساء، جثثا منتفخة، رؤوسها الظاهرة زرقاء اللون ..
ورأيت نفسي ملقى مع الجثث، لكنى كنت أتنفس .
لما سقط المطر فجأة بغزارة، ذهبت إلى كوخي الذي لا يبعد عن الشاطئ كثيرا. توجهت فورا إلى فراشي الصغير ونمت .
رأيت الشاطئ في الحلم مشمسا ومزدحما بالمصطافين ، وعددا كبيرا من الأطفال والشباب يلعبون ويمرحون على الرمال ، أجسامهم العارية تلتمع تحت وهج الشمس، وثمة شمسيات ملونة منتشرة على طول الشاطئ يجلس تحتها في استرخاء الرجال والنساء الجميلات.
قمت من نومي مذعورا، اتجهت إلى النافذة. نظرت من خلال الزجاج فوجدت الجثث كم هي ، ملقاة فوق الشاطئ ، والأمواج تحاول أن تطولها ، فعدت إلى فراشي الصغير واستغرقت في النوم هادئ البال .
بكــائي
كان الليل في أوله ، وزحام الناس في الميدان يثير غبارا رمادي اللون فينتشر فوقهم، تكشف عنه الأضواء التي بكرت في السطوع .
شعرت بالاختناق وحاولت جاهدا أن اخلص نفسي من وجودهم ، فهم كثيرون إلى حد لا يطاق. اخترقت الزحام وأنا أشعر بأذرعهم وأكتافهم تضربني وتدفعني يمينا ويسارا. رأيتهم وكأنهم يحاولون أن يتخلصوا من بعضهم البعض .
الفرادى منهم يحدثون أنفسهم بصوت مسموع ، ويلوحون في الهواء بأذرع مفرودة. الذين يسيرون معا يتبادلون الشكوى أو الوعيد أكياس البلاستيك المملوءة بأرغفة الخبز والملابس القديمة .
لم أقاومهم ، تركتهم يتقاذفونني لأني كنت أفكر في أشياء كثيرة ، وكنت تعبا من كثرة المسير،وكنت في حاجة إلى أن أكون بمفردي ، وحيدا بعيدا عن الناس .
وصلت إلى نهاية الميدان فوجدت أرضا خلاء شبه مظلمة محصورة بين بنايتين عاليتين جدا. اندفعت إليها وتوغلت فيها مجتازا أكوام النفايات والتراب .
ولأن المكان كان شبه مظلما ولم تتعود عيناي عليه بعد، فوجئت بحائط اصطدمت به، فألصقت وجهى به، وفردت ذراعيّ عليه وأخذت في النحيب .
مــوتـى
لما شعرت بدنو أجلى
وددت لو حلقت في السماء
لأشاهد على الأرض موتى .
موتـهـا
فيما كنت اعبر الشارع محاولا تفادى السيارات المسرعة ، كدت أصطدم بدراجة يقودها رجل يرتدى جلبابا قديما. وكان ثمة مفرش كالح اللون ملفوفا ومثبتا خلفه بعرض الدراجة .
توقف الرجل ذو الجلباب فجأة حتى يتجنب الاصطدام بي، فسقط المفرش القديم على الأرض، ثقيلا .
وفيما أنا أعتذر إليه ، حاولت أن أعيد إليه المفرش القديم الملقى على الأرض، فتدحرجت منه فتاة صغيرة متصلبة الجسد، مغمضة العينين ، في شعرها أشرطة حمراء جديدة .
قال الرجل ذو الجلباب القديم وهو يسرع بالنزول من فوق الدراجة ليستعيد أشياءه، إنها ابنته..وهو ذاهب إلى المقبرة لدفنها .
موتــــه
مر بى رجل عجوز رآني ممددا جسدي على الرصيف ساكنا .
قال لي الرجل العجوز: ماذا بك يا بنى ؟
قلت له : يا جدي ..لقد مللت الحياة وأريد أن أموت .
قال لي الرجل العجوز : يا بنى في الحياة مباهج كثيرة ، ليس من المعقول أنك استنفدتها كلها حتى تطلب الموت .
قلت له : يا جدي .. لقد استنفدت المباهج المجانية التي لم تكلفني شيئا.. أما المباهج الأخرى فهي ستكلفني فوق طاقتي، وأنا شاب فقير ..لذلك أستعجل الموت .
قال لي الرجل العجوز : يا بنى .. إن الحياة في حد ذاتها بهجة . لكن ..حسنا إذا أردت أن تموت فما عليك إلا أن تدفن جسدك في التراب .
حيــاتهـا
فيما كنت أجلس على رصيف المقهى احتسى فنجانا من القهوة كنت في حاجة إليه ، أٌقبلت علىّ امرأة ترتدى جلباب أسود وطرحة سوداء ، تحمل طفلة صغيرة مرمدة العينين على ذراعها .
مدت المرأة يدها وطلبت منى خمسة قروش لتشترى رغيفا . هكذا حددت طلبها. ولما وجدتني أرمقها صامتا، ألحت قائلة أن الرغيف من أجل طفلتها، فأعطيتها القروش الخمسة .
تابعتها وهى تعبر الطريق في الجانب الآخر الذي يواجه المقهى رأيتها تمد يدها لصاحب حانوت صغير وتعود يدها وهى ممسكة برغيف أسمر صغير .
قرفصت المرأة على الطوار أمامي. شقت جانب الرغيف بأصابعها العجفاء ثم أخرجت ثديها القريب من وجه الطفلة وأخذت تعتصره داخل الرغيف المفتوح وتناوله لطفلتها مترعا باللبن، وهى تهدهدها .
ســلام
كان عائدا إلى بيته في وقت متأخر من الليل ، كلن طريقه طويلا تحفه من الجانبين مزارع تمتد إلى مساحات بعيدة، وقليل من البيوت الصغيرة المغلقة الأبواب .
لا يسمع نباح الكلاب وتغريد صراصير الحقول ونقيق الضفادع. التقطت أذناه أصواتا بشرية من داخل الأرض المزروعة القريبة منه. شعر بالأنس وزالت عنه مشاعر الوحدة والخوف، وكاد يغنى لليل.
اتجه صوب المكان الذي التقط منه أصوات البشر. عبر الطريق المترب وأدخل نصف جسده بين
سيقان الزرع العالي. لم ير شيئا، ولم يسمع صوتا. بادر بالسلام يلقيه في طيات الظلمة: السلام عليكــم
جاءته الطلقة النارية في صدره .
غــيـرة
ظللت عقودا طويلة أشعر بالحقد والغيرة من الذين يعيشون فوقى. أشعر بوقع أقدامهم على الأرض فوقى ، وبأصواتهم تخترق عزلتي القديمة المنسية. أسأل نفسي وأرد عليها أن لا عدل هناك .
فيما أنا ملقى في الأسفل ، أحسست بوقع أقدامهم . كانوا يتحدثون ويضحكون. التقط سمعي المرهف كف أحدهم وهى تزيل التراب من فوق شاهدتي قائلا : يا لك من سعيد الحظ أيها المدفون تحت الثرى .
خــائنــة
سمعت وقع أقدامه السريعة المكتومة فوق الرمال. من خلال الضباب رأيتها بدون ملابس، عارية الجسد، محلولة الشعر، تمتطى حصانا أسود يعدو بها على الشاطئ، لا تكاد سيقانه تلامس الرمال .
هكذا رأيتها، وبشرتها العارية في لون الحنطة وسط الضباب، حتى اشرأب الحصان بعنقه ذي العرف الداكن، رافعا قائمتيه الأماميتين في الهواء، وهى تتشبث بكلتا ذراعيها النحيفتين القويتين، بعنقه النافر العضلات، منطلقا بها إلى جوف السماء البيضاء كالكفن
كيف تجرؤ أن تفعلها ، وتتركني هاربة من الأرض ..هذه الخائنة ؟
جـوعــى
في الليل ، كنت أحب أن أخترق الميدان الخالي من البشر، لأجد نفسي غارقا في ضوئه الأصفر الباهت .
في هذا المساء، دلفت إليه وتجولت فى ساحته الكبيرة وحدي وأنا أستحم في ضوئه الكئيب ، وظلي منكمش تحت قدمي .
وفيما أنا أفعل، أحسست بهم قبل أن يلوحوا لي . رأيت أشباحهم في الظلمة مقبلين نحوى ، عرايا،أجسادهم رمادية ، شفاههم ممصوصة وعيونهم أحداق مجوفة جامدة .
اختلط على الأمر : هل هم جوعي أم موتى ؟
جوعي لأن أجسادهم ضامرة هزيلة، وعظامهم بارزة.
موتى لأني سمعت عظامهم وهى تقرقع ، وهم يتجهون نحوى، متخشبين ، يزحفون ولا يسيرون، لا يحيدون يمنة ولا يسرة.
فجأة وجدت أحدهم أمامي ، واقفا في مواجهتي .
قلت له وأنا أشير إليهم : هل هم الجوعى؟
وشلحت ملابسي من فوق بطني المشفوطة .
فهز رأسه ببطء وكأنه يتحرك على عمود من العظم وقال لي بصوت مبحوح ذي صرير: ..لا..
وأشار إلى ظلمة تجويف البطن، وإلى عظام الحوض البيضاء .
انتظــار
لما سمعت الضوضاء في حلمي، وشممت روائح الطبخ ممتزجة بروائح العطور، أفقت من نومي وقلبي من الداخل يضرب صدري ضربا مبرحا .
فتحت باب مسكني وخرجت إلى البسطة العريضة. وجدت أبواب المساكن الأخرى مغلقة ولا شئ آخر.
أخذت أتنصت على الأبواب فلم أسمع تنفسا. وحينما دفعت أحد الأبواب إلى الداخل، شممت رائحة قديمة زنخة، ورأيت رجلا عجوزا يجلس على مقعد بمسندين في مواجهة الباب وهو ينظر إلى السقف، وامرأة واقفة خلفه نظرتها شاردة في فراغ الصالة، مفرودة الذراعين، ثابتة في مكانها ، تقطع الطريق على باب صغير مغلق خلفها .
مررت بجسدي متسللا من تحت ذراعيها المفرودتين المشلولتين ، ودفعت الباب فكشف لي عن حمام تقف فى وسطه فتاة عارية مفرودة الذراعين ، وافرة النهدين، ممتلئة من أسفل، ومثلث عانتها منتفخ كثيف الشعر، وعيناها تنظران في تواصل وأمل إلى القادم من ناحية باب الحمام دون أن تشعر بي ، أو تراني.
***** ***** *****
مجلة الحياة الثقافية / تونس ـ أبريل 1997
مجلة إبداع 6/ 96