محمد الراوى
في الذكرى العشرين على رحيل الشاعر أمل دنقل
في السويس .. بكيت حاجتي إلى صديق
المشهد الأول : الزيارة الأولى
أيقظتني أمي من قيلولة الظهر قائلة لي : فيه واحد عايزك واقف عند الباب
قلت لها وأنا أفتح عيني بصعوبة : ألم يقل لك من هو ..لا أحد يزورني في هذا الوقت .
قالت تأمرني ـ قم ..هو واحد طويل ونحيف وبيقول إن اسمه أمل .
قمت منتفضا من فوق سريري صائحاـ إنه أمل دنقل..أول مرة يزورني في البيت. خرجت إليه فوجدته واقفا على آخر سلمة بجوار باب الشقة. سلمت عليه وجذبته من يده ذات الأصابع الطويلة لأدخله حجرة الصالون .
كان طويلا نحيلا ذا شارب خفيف، وشعر رأسه ناعما يميل إلى اللون الكستنائي الغامق، مفروقا من جانب. أحسست به تعبا مكدودا وهو يلقى بجسده على المقعد الفوتيل، استرخى وانقسم هيكله إلى نصفين، نصف يستند على ظهر المقعد، والنصف الآخر تدلى إلى أسفل وقد مدد ساقيه الطويلتين فشغلت مساحة كبيرة أمامه .
قال باقتضاب ـ هل أيقظتك من النوم ؟
قلت ـ لم أكن نائما..كنت أستريح ..عدت من عملي منذ قليل.
تطلع حوله ناظرا إلى كل شئ في حجرة الصالون .
قلت له ـ هل أحضر لك غذاء ؟
قال باقتضاب ـ لا .. لقد أكلت ..أريد كوب شاي ثقيل .
خرجت من الحجرة وطلبت من أمي أن تجهز كوبين من الشاي الثقيل.
قالت هامسة ـ هل هو صاحبك؟
قلت ـ نعم..وهو معنا في الندوة، إنك لم تريه من قبل فهو ليس من السويس ، أراه في الندوة أو أجلس معه على المقاهي أو أذهب إليه في حجرته التي يستأجرها .
قالت ـ زائر يعنى..
قلت ـ انتقل من جمرك الإسكندرية للعمل في جمرك السويس..كفاية أسئلة يا أمي .
قالت ـ يبدو أنه صعيدي
قلت ـ هل يبدو عليه ذلك ؟
قالت ـ لهجته صعيدي
قلت ـ هو صعيدي فعلا..من القلعة
قالت ـ جاركم يعنى ..أبوك يعرفهم كلهم .
قلت ـ أنا من الأشراف لكنى لم أولد ولم أعش فيها ، أمل ولد هناك وعاش في الصعيد فترة شبابه..مثل أبى قبل أن يأتي ليعيش في السويس .
قالت ـ طيب روح أنت له وسآتي بالشاي حالا .
عندما دخلت عليه حجرة الصالون وجدته نائما ، لم ساقيه الطويلتين فارتفعت ركبتاه إلى مستوى صدره، فبما كان رأسه مستندا على حافة المقعد مغمض العينين .
سحبت نفسي إلى الخارج مغلقا باب حجرة الصالون بحرص وهدوء وبقيت مع أمي في المطبخ حتى جهزت الشاي ووضعت الكوبين فوق الصينية.
قالت قبل أن أخرج من المطبخ ـ هل هو يكتب مثلك ؟
قلت ـ إنه شاعر يا أمي.. أنا أكتب القصص..
قالت ـ يا ابني مش كله كتابة..
قلت ـ لا يا ماما ..هنا الكتابة تفرق ، وبعدين أمل نشر شعره في مجلات كثيرة ومعروف أكثر منى، وأنا يا دوب قصتين منشورتين .
التقط أمل كوب الشاي بأصابعه الطويلة وقام واقفا
قال ـ فين المكتبة بتاعتك يا محمد ؟
قلت ـ إنها في الداخل ..من هنا.
كانت مكتبتي في حجرة داخلية، حجرة حبيس في نهاية حجرة الصالون لها نافذة تطل على الحارة ومعزولة عن ضجة البيت. رفوف على الحائط ملآنة بالكتب ومكتب ومقعد وسرير فرادى صغير .
أخذ يقرأ واقفا أسماء الكتب من كعوبها ويسحب بعضها ليطالع الغلاف أو يفر أوراقها فرا سريعا .
سألني ـ أين المجلات ..مجلة المجلة ، الشعر ؟
أشرت له ناحية الأرض. كانت المجلات باختلاف أنواعها مرصوصة بجوار الحائط فلم يكن لها مكان فوق الرفوف . قرفص أمل على أرض الحجرة ووضع كوب الشاي بجواره وأخذ يتصفح المجلات باحثا عن قصائده بين صفحاتها.
ذلك ما أتذكره في زيارة أمل دنقل الأولى لي..وكنا في أواخر عام 1965 .
المشهد الثاني : قصيدته ( السويس )
بعد مرور عشرين عاما على رحيل الشاعر الكبير الغائب الحضر أمل دنقل (رحل عصر يوم السبت 21/ 5/83 ) أجدنى كلما قرأت قصيدته ( السويس) متوقفا أمام البيت الشعري الذي يقول فيه :
( وفى سكون الليل في طريق ،
بورتوفيق،
بكيت حاجتي إلى صديق )
قضى أمل دنقل قرابة العامين( 65 ـ 66 ) يعمل موظفا بمصلحة الجمارك بالسويس، وكانت السويس آخر محطة لتجواله بعدها استقر في القاهرة حتى رحيله . في تلك الفترة ظهر الشاعر أمل دنقل في ندواتنا الأدبية وجلساتنا الثقافية الخاصة سواء في بيوتنا أو على مقاهي المدينة أو ونحن نتجول في شوارعها . وقد انعقدت علاقات الصداقة والزمالة بينه وبين مجموعتنا: الأداء والشعراء أحمد حافظ، الكابتن غزالى، مصطفى نجا، محمد عطا ، محمد محفوظ ، كامل عيد رمضان ، والراحلين محمد شطا، محمود الخضري ، عبد الفتاح القليعى وغيرهم . إلا أنى ما زلت حتى هذه اللحظة اشعر بالألم الدفين المصحوب بالتساؤل .
عندما بعث إلينا أمل من القاهرة بعد حرب 1967 بقيصدته ( السويس ) وكنا من قبل قد قرأنا قصيدته النبوئية المتفجرة ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ) التي انتهى من كتابتها بعد حرب يونيو1967 بأيام قلائل ، إن لم تكن ساعات، حيث إنداحت القصيدة لتدخل إلى قلوبنا الجريحة ، هذه القصيدة لم تنطلق كالصرخة في تاريخ كتابتها( 13/6/67 ) إنما كانت في وجدان الشاعر قبل أن ينفجر بها صوته وقلمه، وجو المأساة يخيم على حياتنا :
أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك..مثخنا بالطعنات
والدماء
أزحف فى معاطف القتلى وفوق
الجثث المكدسة..
منكسر السيف، مغبر الجبين
والأعضاء .
ولم تكن قصيدته ( السويس ) إلا صرخة أخرى تعبر عن ألم الشاعر وهو يرى جزء عزيزا عليه من العالم الذي عاش فيه ردحا من الزمن، يتهاوى ويحترق:
والآن..وهى فى ثياب الموت
والفداء
تحصرها النيران..وهى لا تلين
أذكر مجلسي اللاهى على
مقاهي ( الأربعين)
بين رجالها الذين
يقتسمون خبزها الدامى، وصمتها
الحزين
ويفتح الرصاص ـ في صدورهم ـ
طريقنا إلى البقاء
ويسقط الأطفال في حاراتها
فتقبض الأيدي على خيوط
طائراتها
وترتخي ..هامدة، في بركة الدماء
وتأكل الحرائق
بيوتها البيضاء والحدائق
ونحن ها هنا..نعض في لجام
الانتظار! نصغي إلى أنبائها
ونحن نحشو فمنا ببيضة الإفطار!
فتسقط الأيدي عن الأطباق والملاعق .
أسقط من طوابق القاهرة الشواهق
أبصر في الشوارع أوجه المهاجرين
أعانق الحنين في عيونهم
والذكريات
أعانق المحنة والثبات.
المشهد الثالث : ذكريات ..وقصيدة متى
أعود وأقول لقد استردت مصر كرامتها وكرامة العرب في حرب أكتوبر 1973 ، كما استردت مدينة السويس وكل مدن القناة بهاءها، واستطعنا أن نحصر آثار الماضي في ركن دفين، نتعلم منها كيف نعمل من اجل المستقبل ونحن نتطلع إليه.
أقول رغم هذا، فما زالت ذاكرتي ترتد إلى الوراء كلما قرأت في ديوان أمل دنقل( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ) المقطع الأول من قصيدته " السويس" خاصة الجزء الذي يقول فيه:
عرفت هذه المدينة
سكرت في حاناتها
جرحت في مشاحناتها
صاحبت موسيقارها العجوز
فى ( تواشيح ) الغناء
رهنت فيها خاتمي ..لقاء وجبة
العشاء
وابتعت من ( هيلانة) السجائر
المهربة
وفى الكبانون سبحت
واشتهيت أن أموت عند قوسي
البحر والسماء!
وسرت فوق الشعب الصخرية
المدببة
القط منها الصدف والقواقعا
وفى سكون الليل
في طريق بورتوفيق
بكيت حاجتي إلى صديق
وفى أثير الشوق: كدت أن أصير
ذبذبة .
ما أشد وقع هذه الكلمات على نفسي وربما على آخرين عاشروه عندما كان بينهم في السويس. لم احزن لأني كنت أعتبر نفسي صديقا له، فما أكثر أصدقائه، بل لأنه لم يجد فيمن كانوا يحيطون به في السويس من يعتبره صديقا له بمفهومه الخاص!
لم يجد أم دنقل في مجموعتنا من هو صنو له في جانب هام من شخصيته مما خلق حاجزا شفافا لا يرى ولكن ممكن الإحساس به. كان فريدا وشاذا عن المجموعة ، وكان أمل يبحث عمن يماثله ، ولكن أى مماثلة ؟ هذا ما كان متواريا في خفايا ذاته ولم نصل إليه.
ذكرني صديقي شاعر العامية كامل عيد رمضان الذي عاش معنا هذه الفترة بقصيدة كتبها أمل في مرحلته الأولى وكانت بعنوان( متى ) نشرتها مجلة صباح الخير في أوائل عام 1966 وقامت المجلة بالتعليق على القصيدة في نفس العدد الذي نشرت به. كان التعليق مدخلنا إلى الحديث عن شخصية أمل، أما التعليق فيمكن تخمينه بعد قراءة القصيدة.
هذه القصيدة لم تنشر في أي من دواوينه، لكنى عثرت عليها ضمن مجلد أعماله الكاملة التي قدم لها الدكتور الشاعر عبد العزيز مقالح تحت فصل ( قصائد متفرقة )، وكان عنوان القصيدة باسم آخر هو " نجمة السراب" وربما قام أمل بتغير اسم القصيدة لأسباب ما قد تكون فنية، أو لما يرمى إليه هذا التساؤل ( متى ؟ ) لأن تعليق مجلة صباح الخير على القصيدة كان يركز على المعنى الذي يرمى إليه هذا التساؤل من خلال أبيات القصيدة .
والسؤال هنا..لماذا احتفظ أمل دنقل بهذه القصيدة دون أن يضمها مثلا إلى قصائد ديوانه الأول" مقتل القمر " خاصة أن هذه القصيدة تمثل مرحلته الأولى؟ لم يكن أمل قد تبوأ قمة الشهرة وقتذاك (1966) وكان يجتاز مرحلة البحث عن شخصيته الشعرية وأسلوبه الخاص، ولا تشكل هذه القصيدة أهمية خاصة بها، بقدر ما كانت محورا ومدخلا للأصدقاء إلى سريرة إنسان يعتبرونه صديقا لهم ليس إلا ، وكان ذلك قبل أن يقولها في قصيدته " السويس " ـ 1967 ..
وفى سكون الليل
في طريق " بورتوفيق"
بكيت حاجتي إلى صديق *
قصيدة أمل دنقل : نجمـة السـراب ..أو ( متى ؟ )
صديقتي شدت على يدي ..
وقالت لن أزور غرفتك
إن شئت..فلنبق معا إلى
الأبد
ولم أرد
لأن ثوب العرس في معارض
الأزياء نجمة تدور في سراب
ولم أزل أدق بابا بعد باب
وخطوتي تنهيدة، وأعيني
ضبـاب
حتى بلغت غرفتي
في آخر المطاف
وقطتي تلد
مواؤها : عذاب أنثى ليلة
المخاض
أنثى وحيدة ..تلد
وأخلد الجيران للسكون
وقطهم يجلس ـ في الشباك
ـ ناعس العيون
يلعق في فرائه المنقط
البيـاض
يلعق ـ عن فرائه ـ
عذاب قطتي الممتد
سعت إليه ذات ليلة ولم
تسله ثوبا للزفاف
لأن ثوب العرس
في معارض الأزياء
نجمة تدور في سراب
محمد الراوى/ السويس