البطل في رواية ( الوشم )
لعبد الرحمــان مجيد الربيــــعي
أنا ... كريم الناصري
بقلم : محمد الراوي
مصر
ان كريم الناصري هو أنا . لا بد أن أنبه هنا إلى أن الشخصية الأولي و الأقرب في كل ما كتب تتمثل في أنا . سواء ذكر أسمي أو لم يذكر ، لا الكاتب بل الإنسان في كل ممارساتي و معايشاتي في كل كبريائي و نكوصي ، انتصاراتي و هزائمي . لذلك فأنا حريص علي إغناء هذه ( الأنا ) من خلال القراءة و الارتماء في التجربة و المغامرة و الدخول في قلب العالم لا التوقف عند ضفافه ، أفعل هذا مهما كان الثمن الذي أدفعه وفق قوانين الآخرين التي تنظم قطيعهم البلهاء ما دامت النتيجة في الأخير لصالح الكتابة التي هي همي الأول و قضيتي الأولي.
أن كريم الناصري هو أنا ، لكنه ليس أنا أيضا . أنني بطل رواية لا سيرة ذاتية ، لكنها أيضا سيرتي الذاتية في ثوب روائي . أنني أستحضر ذاتي ، و هذا لا مفر منه . و يأتي مع ذاتي التي أستحضرها كل العالم الذي أعيش فيه من بلدان ولدت و عشت فيها و من أصدقاء و محبين و عشاق . هكذا أنا كريم الناصري ، أو أي أسم تطلقونه علي . أنني واحد في الكل و الكل في واحد . أن معاناتي أنا كريم الناصري ، صارت بالنسبة لي كالوشم الذي يدمغ الجلد فلا يمحوه الزمن . أن الوشم لا يمكن محو آثارها لا بسلخ الجلد ، لتغيره . و جلدي لا يتغير ،قد يرق و قد يغلظ و لكنه لا يتغير ، و لن تستطع طبيعة الحياة التي عشتها أن تغيره ، و لم تؤثر فيه حياة المعتقل ، و إن كان جلدي قد أشتد غلظا بعد خروجي من المعتقل . أنني لا تتحدث عن الرواية التي أنا بطلها كوثيقة تاريخية . حقيقة أنها وثيقة تاريخية تشهد علي عصر صعبا عشته ،و عاشه آخرون في كل البقاع العربية ، لكني لن أتوقف عند هذا المعني ، الوثيقة . فقد نال هذا المعني اهتماما كبيرا من الدارسين و النقاد في دراستهم . أنني أريد أن أتحدث عن نفسي ، أنا كريم الناصري ، كانسان ، كشخصية ثائرة أو متمردة ، لقد تمردت ى علي نفسي أكثر مما تمردت علي أوضاع و أشياء كان يجب تغيرها ، لقد لبست ثوب الثائر في الوشم ، و لكن أي ثائر ، فالثائر الحقيقي لا يعرف أحاسيس الاشمئزاز و لا التوقف ليمنح نفسه بعض الوقت للندم علي ما أقترفه يداه ، و علي ما أعتنقه من أفكار .
كنت أنا كريم الناصري حالما كبيرا ، و الثورة هي طريق الحلم ، تحقيق الحلم هكذا علموني ، و هكذا كنت أعرف ، لكني أصبت بالانكسار ، وكانت الحقيقة تختلف تماما عن الواقع ، فابتليت بحالة شديدة من الاشمئزاز ، من نفسي أولا ، و من كل شيء يقع تحت بصري و سمعي ، حيث لم أعد مؤمنا بالمثل العليا التي كنت طالما كنت أحلم بها ، و كفرت بالالتزام السياسي الذي عانيت منه فترك في نفسي ما يشبه الوشم ، وشم لا يدمغ الجلد ، بل يدمغ أفكاري و أحاسيسي بعد أن تسربت روحي المعنوية و أضحت في الحضيض .
كنت أنا كريم الناصري ، أحب التغيير كما أحب السفر ، التغيير في كل شيء و ايس في الأدب فقط 0كنت أحلم بأن أكون ، وأن أكون ثوريا في قلب صفوف الشعب ، كنت أعتقد أنه لا يكفي المرء أن يكون كاتبا فقط ، مهما كانت قيمته ، بل عليه أن يكون شريفا راسخا في ضمير شعبه 0 لكنني أنا كريم الناصري ، لم أكن شريفا راسخا ، و لم أكن في ضمير شعبي لحظة واحدة . كنت أري أن العمل السياسي هو الأقرب إلى تحقيق هذا الحلم . لبست ثوب الثائر في الوشم فانهزمت ، و ها أنا أحلم بان ارتدي ثوب شخصية الدكتاتور ، فهل ألقي الهزيمة مرة أخري ، أم أن شخصية الدكتاتور سوف تجعلني أعيش بأحلامي حتى و لو كانت خادعة و مزيفة .
أنني أنا كريم الناصري بطل الوشم علي سن و رمح ، لم أكن حقيقة منتميا للحزب الشيوعي ، و لا إلى حزب من الأحزاب . طبيعتي ترفض الانتماء و الاصطفاف ،طبيعتي تميل إلى التمرد . لكن ما الفرق بين الثائر و المتمرد ؟
إن الثائر يثور علي شيء معين ، علي وضع لا يرتضيه . أما المتمرد فهو ضد القيود و النظام و القوانين . إن الوصول لحالة التمرد تخطي لحالة الثائر . و أنا ثرت علي الواقع السياسي لما تحول من جريمة سياسية إلى جريمة أخلاقية . ثرت من أجل التشهير بالقمع ووسائله في تدمير الإنسان في تحويله إلى حيوان يقطعون لسانه إذا صرخ و يبترون أطرافه إذا حاول الاعتراض أو الهرب . و لكن أي ثائر و قد أعلنت علي الملأ براءتي ، و لماذا لا أعلن براءتي و كل المثقفين من حولي يفقدون أصواتهم و فعالياتهم وقت الانكسار ؟
أنا كريم الناصري ، رأي الجميع قلبي مفتوحا مباحا للعيون ، الجميع يعرفون من أنا منذ يوم ولادتي حتى المكان الذي أعيش فيه اليوم ، منذ ولدت في الناصرية عام 1939 علي ضفة نهر الفرات ، حتى أستقر بي المقام في ضاحية باردو ( تونس العاصمة ) . أنا كريم الناصري إنسان حقيقي ، ق تلتقون بمن يشبهني إذا صادفكم ( رجب ) أو ( شرف ) ، أو غيرهما من أمثالي . لكنكم ستتعرفون علي شخصيتي من صوتي ، فصوتي أعلي ، و مشواري أطول ، لأن عمري أعمق ، و اشمئزازي مرير كالوشم تحت الجلد علمني عمي الشجاعة ، لكن أمي علمتني الخوف ، فكبرت و أنا بين بين . عمات في الصحف و المجلات و صرت كاتبا ، بل و شاعرا أيضا ، علي الورق و في حياتي الخاصة . لي طقوسي و علاقاتي الخاصة ، فأنا جئت إلى هذه الحياة خلطا من الحلم و الجنون و العشق و البوهيمية و الفوضى و النظام أيضا .
أنا كريم الناصري الذي هرب من يسرى الطالبة الجميلة ذلت البهاء ، خوفا عليها منيّ ، فتاريخي ملطخ مهزوم 0أنا كريم الناصري المتمرد أعجز عن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، أتخلي عن أشياء ذات قيمة و علاقات ثمينة لمجرد أني عجزت عن التمسك بها ، فضاعت مني أسيل عمران الفنانة المثقفة التي أحبتني بحق ، و ارتميت في وحل شهرزاد الراقصة ، و كادت روحي تخرج من حلقي قرفا كلما اقتربت من البغي السمينة ذات العنق المكتز المرشوق بالوشم و فخديها المطرزين بالوشم . كادت علاقاتي بمريم تحولني إلى عاشق . إن علاقاتي المتعددة بالنساء جعلت البعض يتهموني بأني لا أرف الحب الحقيقي الذي يملأ القلب و العين . لا أنكر أن علاقاتي بالمرأة عموما و لفترة طويلة من الوقت كانت متعددة . لو كنت أبحث عن الحب بمعناه الذي نعرفه جميعا لتوقف سعيي عند واحدة و ربما كانت هذه الواحدة هي أسيل عمران ، أو ربما يسري الطالبة ، لكني كنت في سعيي إليهن أبحث عن نفسي لا عنهن . فأنا لا أحب أحدا ولا أبحث عن أحدا سوي ذاتي . كنت أبحث عن ( أناي ) ،كنت أبحث عن ذاتي . إن ذاتي ليست في أبدان النساء و لا في قلوبهن ، إنها بداخلي أنا ، و كنت أبحث عمن يهزها و هي بداخلي فتصحو . كنت أبحث عن مرفأ ، هذا المرفأ أعرف أنه بداخلي ، داخلي أنا وحدي ، أنا كريم الناصري . أننا نحب و نتغير مع كل علاقة حب ، هكذا نبدو أحيانا ، نتغير ، لكننا لا نكف عن الحب أبدا ، هذا رأيي ، و هذه هي حياتي ، حياة كريم الناصري . لأن الأنا عندي لن تبقي مستكينة خاصة بعد فترة إذلالها في المعتقل الذي عشت فيه شهورا و كأنها العمر كله . إن ذاتي تريد أن تحقق نفسها فتعيد تجربة الحب مرة أخري و لا مانع أن تعيده مرات و مرات . إن الحب بالنسبة إلى واحد مثلي لعبة مثيرة جادة و ضرورية حتى لو كنت أتلظى في جحيم الحب ، و هي في نفس الوقت رحلة بحث مرهقة مشحونة بالعذابات . أري أنا كريم الناصري ، إن تقلبات القلب و العاطفة ليست علامة علي الخفة أو المراهقة ، بل هي رحلة أبدية مستمرة دائما و أبدا ، تبحث فيها الأنا عن الكمال و الوحدة التي لن تتحقق أبدا ، و المحاولات لا تتوقف أبدا أيضا. عيبي الوحيد ، أنا كريم الناصري إن فضائي الداخلي كان يرفض أي جسم غريب يدخل إليه ، حتى و لو رغبت في ذلك ، فقد كان فضائي مكتفيا بذاته ، فقط في حالة مريم التي كانت تمتلك زوجا و بنتين و عشيقا ، هنا أختلف الأمر ، و كادت تؤدي بي موارد التهلكة . فقد كنت أنا كريم الناصري أغار من حياتها بعد أن لمست إنها من الممكن أن تكتفي بنفسها و بنمط حياتها الخاص، و قد أعياني عجزي عن استمالتها و الاستيلاء عليها و جعلها تابعة ، رغم إنها كانت مستباحة . فأما أن أجعلها تابعة لي ، خاضعة لي ، أو أقوم بتدميرها . أن فشل الأنا في الاكتفاء بنفسها عند الضرورة أمام الأنا الأخرى ، يؤدي إلى الإدمان و الانتحار أو القتل . كنت مع مريم رجلا ذا قوة منعزلة داخل قوتها الذاتية بعيدة عن النظام ، لا علاقة لها بمجتمع أو قانون خارج قانونها هي ، قانون الذات الذي يبيح لها أن تفعل ما تريد بلا أدني التزام بالعالم الخارجي . أنها العزلة المحضة ، و الوحدة التي تلتهم نفسها ، و هذه هي الدوافع و الأسباب التي كانت تكمن في علاقاتي المتعددة مع أسيل عمران و مريم و يسري و كل ما فيها من متناقضات أنا كريم الناصري ، أسال نفس الأسئلة التي ألقيتها علي نفسي أمام صديقي حسون : هل بالإمكان أن تكون المرأة تعويضا كاملا عن الخيبة السياسية ؟ و هل تكفي لأن تكون ضمادا لكل الجراح ؟ و لكن أي امرأة تقدم ذلك ؟ ( أنني خائف ياحسون ،خائف من عثرة أخرى لن أنهض بعدها ) .
أنه صديق حسون الذي شاركني الحياة و المعتقل لم يستطع أن يجيب علي تساؤلاتي . لكنه إذا ظهر لي في الوقت الحالي فسوف يدرك أني عثرت علي الإجابة .
المصادر
1- مؤلفات الأديب عبد الرحمان مجيد الربيعي :
· رواية الوشم – دار الطبيعة – بيروت طبعة عام 1978
· رؤى و ظلال – نقوش عربية- تونس عام 1994
· من النافذة إلى الأفق مؤسسة سعيدان – تونس عام 1995
· من سومر إلى قرطاج – دار المعارف للطباعة و النشر – تونس عام 1997
2-الحب : الوجه الآخر – دراسة لمحمد الراوي – مخطوط لم ينشر
( رجب ) : بطل رواية ( شرق المتوسط ) لعبد الرحمان منيف
( شرف ) بطل رواية ( شرف ) لصنع الله إبراهيم
ملحق
إلى الصديق العزيز
الأديب العربي الكبير : كريم الناصري !!
بعد التحية
يسعدني أن أكتب إليك لأول مرة !! و الفضل يرجع إلى صديقنا المشترك عبد الرحمان مجيد الربيعي . و قد أتاح لي فرصة التعرف عليك " الوشم " ، و من خلال شهاداته و حواراته المشورة في كتبه : رؤى و ظلال – من النافذة إلى الأفق / من سور إلى قرطاج
و قد قمت برسم صورتك بملامحها الخارجية و الداخلية عن طريق تجميع عدد كبير من الأجزاء المتشظية في هذه الكتب . و قد ملأت الثغرات ، خاصة الثغرات الداخلية الثائرة بما يتفق مع الملامح الخارجية ، و بما يتلاءم مع أفكارك و مواقفك الشخصية ككاتب يسبح في خضم الحياة العربية . أعرف أن هناك امتدادات أخري إضافية في شخصيتك ، مبثوثة في روايات أخري مثل القمر و الأسوار و عيون في الحلم للروائي الربيعي ، في روايات لم أقرأها مثل ( الأنهار ( و ( خطوط الطول .. و خطوط العرض ) . فمعظم أعمال الأديب الربيعي هي انعكاس لحياتك . وكل ما فعلته هو التقاط صورة صوتية رأسية لك… اخترت أنا زاويتها !!!
مع تحياتي
محمد الـــراوي
مجلة الأتحاف التونسية
مارس 1999