كان الضباب رماديا عكرا يغطي كافة الدور والأشجار ويموه معالمها, كما كان السكون ثقيلا صارخا يجثم بطول المنطقة وعرضها وأعماقها, فرغم أن شارع الهرم واحد من أماكن العاصمة التي لا تكف عن الصخب والضجيج نهارا ولا تعرف النوم ليلا, فإنه علي غير العادة قد كف عن الحركة وانطبقت أجفانه وقطع النفس في تلك الساعة المبكرة من فجر اليوم الثالث من أول شهور عام2010, فعلي ما يبدو قد استنفد الناس طاقاتهم لذراها في اليومين السابقين احتفالا مجنونا بحلول العام الجديد ومرور عشرة أعوام من القرن الواحد والعشرين معا, وهو احتفال فريد لم يتأجج الهرم فحسب وانما اشتعلت به أنحاء كوكب الأرض كلها وبكيفية محمومة لم تعرف قبلا... عام يتراءي مغلقا مبهما, وقرن ولجنا عشره وبقي أغلبه تلفه الخفايا ويجثم عليه مصير لايزال في طي الغيب, يتألقان سويا, يقفان علي الأبواب, فيالها من مناسبة تطوي البشرية وتغرقها في أحلامها الوردية... وتنفلت من ثنايا الضباب بقعة سداسية الزوايا, قاتمة بلا لون يميزها, لتروح تتقدم حثيثا عبر المصابيح العاجزة عن تبديد العتمة, وقد تميزت علي مكونات الشارع الهاجع باليقظة ونبضت دونه بالوعي والانتباه, كانت البقعة القاتمة الآتية أصلا من ضاحية6 أكتوبر قد غادرت منذ دقائق احدي الفيلات المشيدة اسفل الهرم ذاته, وقطعت ثلثي الشارع العتيد قبل أن تتوقف لدي فيلا ثانية تجاور ملهي الأوبرج المجدد, وعادت فقطعت مسافة أخري حتي مبني العمارة المواجهة لمبني المحافظة الأثري, ثم اجتازت الطابق الأوسط من النفق وطوت ميدان الجيزة في عجلة الي أن جمدت للمرة الثالثة قبالة الفيلا الملاصقة لما كان يعرف بمكتب الشهر العقاري...
وما إن أغلق الباب واستقر ثالث الرجال بالداخل, حتي اطمأنت البقعة القاتمة علي تمام حمولتها فانطلقت يسارا عبر شارع الجيزة الطويل العريض والمختنق أيضا بضباب أكثر كثافة وأشد عتمة, انطلقت مباشرة بكامل سرعتها الصاروخية وقد ارتفعت هامتها عن نهر الشارع بنحو المتر, واشرأبت مقدمتها بينما تهتز وتتمايل في حفيف مكتوم...
أخيرا تنحنح الرجل ضخم الجثمان, ترك أزرار القيادة الي جهاز التحكم الآلي, واستدار يتمتم في صوت خافت: حقيقة أنا مقدر لثلاثتكم تلبية دعوتي العجلة هذه...
لم يجبه واحد من رفاقه الثلاثة المنكمشين علي مقاعدهم, فقط استمرت البقعة القاتمة في سحب دمائهم ونخاعهم أياما خلال طيات الضباب طية من داخل طية, حتي احتواهم طريق الزراعات الكيميائية المصنفة والآخذ اتجاه الشمال...
ـ ظننت أن سهرات الأعياد شغلتكم, وربما أرهقتكم, فلا تستجيبون لرجائي...
وتطلع يحاول اختراق الظلمة عله يقرأ وجوه زملائه.. لكنكم لم تخزلوني, خيرا فعلتم, بل الخير لكم فإن ما سترونه يفوق حفلا ساهرا أو سواه...
وصمت فقد كانوا يجتازون اختناقا في الطريق يملؤه رتل من البرمائيات العسكرية القادمة من اتجاه عكسي, كما ملأه كم من الأضواء مبهر أخاذ...
وتابع: فلما لقيت الأمر بالغ الغرابة.. وخطيرا كذلك.. وفي تقديري لا يحتمل أي تأخير.. لم أجد مفرا من اللجوء الي أقرب أصدقائي.. أنت يا عزالدين.. وجورج والسويفي.. لتشاهدوا الهول الذي رأيت ولتمدوني بالرأي والنصيحة...
وانتهي مرور البرمائيات العسكرية وعاد الطريق إلي سابق رحابته.. وسابق اظلامه...
بغتة سأله الجالس خلفه, مهندس الكهرباء عزالدين بدوي وهو قصير بدين يملأ شاربه نصف وجهه...
ـ ألهذه الدرجة تسمي ما رأيت.. هولا؟
في حين قال المجاور للمتكلم في الجلوس خلفا.. طبيب الأسنان جورج جيد وهو فارع نحيف يتدثر في معطف شفاف من المواد الرقيقة المانعة للبرد...
ـ لكن...... ألسنا في سبيلنا الي قرية النعسانين.. حيث توجد عزبتك وبيتك الريفي؟
اعتدل الرجل الضخم حتي لامست رأسه السقف.. نزع عويناته في حركة عصبية وظل محتفظا بها في يده الضخمة...
ـ أجل نحن ذاهبون بالفعل الي منزلي الريفي.. ففيه رأيت الذي رأيت وكان هولا بكل معني الكلمة...
عندئذ تنبه الجالسون الي اتضاح بعض معالم الطريق.. وتنبهوا أيضا أن السبب هو بزوغ ضياء الفجر وتسلله عبر السحب والضباب فيما وراء التلة البعيدة علي يمينهم من جهة الشرق..
ألقي الرجل الضخم نظرة روتينية علي عدادات التحكم الآلي.. اطمأن.. عاد يهتف وهو يفرج عن آهة حبيسة...
ـ لم يتبق أمامنا الكثير حتي نصل.. نحو ثلثي الساعة وبضعة كيلومترات.. لكنها كافية لأقص عليكم أحداثا جرت بحديقة منزلي الريفي منذ خمسة أو ستة أعوام مضت.. ولا ريب أن صديقي السويفي يعيها مثلي.. فقد كنت أنا وهو وخفير العزبة دون غيرنا من رأوها وعاشوا لحظاتها المرعبة...
تململ أحمد السويفي ضابط المدفعية بالمعاش والجالس علي يمين الرجل الضخم.. وأخرج علبة لفائفه وراح يشعل بأصابعه الموسيقية لفافة: بالطبع.. بالطبع.. وبأدق التفاصيل...
بينما سعل عزالدين وأسرع يخرج بدوره علبة لفائفه وهو يعلن مأخوذا: تقصد ان حادثة النيزك التي ظلت شاغل العالم طيلة عامين أو يزيد...
غير أن قوة علي الأرض لم تكن تمنع السويفي في هذه اللحظة من التركيز والتمهل ليأخذ ناصية الكلام دون عصبية عن أحداث انطبعت عميقة.. ومخيفة.. في ذاكرته...... وفي حين تتضح البقعة القاتمة في ضوء الصبح مركبة صاروخية لا تألو تندفع بهم في اصرار.. راح صوت الرجل الجهوري يتعالي علي حفيف المركبة وعلي اهتزازها المتزايد...
ـ ياه.. دعني أقصها أنا.. حيث استضفتني في ذلك اليوم البعيد الثاني من سبتمبر عام2004 بمنزلك الريفي.. كنت تجري عددا من الاصلاحات في طلمبة المياه الشمسية وتشيد تكعيبة العنب وما أشبه.. وكنا نمضي الصباح في العمل والمساء في السمر.. وفي ليل اليوم السادس7 منه وأنا أتذكره جيدا.. وتحت وطأة قيظ ورطوبة غير عاديين وكان الناموس يلاحقنا أيضا بلسعاته المؤلمة, هرب منا النوم.. فغادرنا المنزل والحديقة قرابة منتصف الليل.. وانطلقنا نتريض معا علي حافة حقل الذرة القبلي يرافقنا رجلك خفير العزبة الطيب.. هنيدي.. نخبره بالجديد في المدينة ونستمع الي نوادره الريفية البريئة.. حينما.... ومض فجأة ضوء في السماء.. ولم نكد نلتقط أنفاسنا الا وأخذت كرة النور اللافحة تكبر وتزداد سطوعا وهي تتهاوي في سرعة البرق تجاهنا.. مخلفة وراءها ذيلا قصيرا لامعا.. وخلال ثوان ونحن بعد حياري.. محملقين.. مبهوتين.. استقر الجرم المضيء في حديقة المنزل محدثا هزة عنيفة ألقت بنا أرضا.. وأسقطت أجزاء من السور وعدة أعمدة للكهرباء بأسلاكها لنصاب وقتها بنوع من العمي الوقتي نتج عن ملاحقة أعيننا للضوء المبهر.. وحين تساندنا وانتصبنا
واقفين اكتشفنا احتراق رقاع بملابسنا وأطراف من شعر رءوسنا وحواجبنا ورموشنا.. بينما رحنا نسعل بشدة وكأن مادة لاسعة مست حناجرنا....
***
بغتة توقف الكلام وعدنا الي واقعنا مع اتخاذ المركبة ونحن بداخلها مسارا منحنيا حادا.. بينما مالت الأجساد بعنف.. وارغمت الأعين علي التطلع عبر النوافذ تتبين معالم الطريق والمزروعات الضائعة معالمها لما يغطيها من أتربة معلقة أبانتها الأشعة الذهبية والتي بددت الضباب وأظهرت أعماقا باهتة الألوان فقيرة الاخضرار...
انتهز الرجل الضخم توقف صاحبه عن الكلام وانشغاله بالتطلع مثل زملائه من نافذته, فاندفع يكمل في انفعال وتأثر, ولاهم لنا حين دلفنا الي الحديقة وجدنا نصف أشجارها من البرقوق قد تفحمت سيقانها واحترقت معظم أغصانها وأوراقها.... ولهث.. فقد كان يسترجع مشهدا مفجعا...
ـ وفي بؤرة الحريق فوجئنا برؤية الزائر المخيف.. يبرز بقمته من وسط الطين.. محمرا.. ضاويا.. مشعا.. تصلنا سخونته ونحن علي بعد أمتار.. وقد أحاطته الأبخرة المتصاعدة من كل جانب وكأن قوامه لايزال مشتعلا.... وفي التو تأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك.. أننا بإزاء نيزك شاهدنا سقوطه منذ أول احتكاكه بجو الأرض والي أن هوي واستقر في الحديقة..
عندئذ تمتم عزالدين مؤكدا: وبقية القصة معروف.. فسرعان ما نشر الخبر في أنحاء البلاد ولف أرجاء عالمنا وسرعان ما أصبحت حديقتك محطا لمئات الصحفيين والخبراء ورجال الدولة وجحافل الفضوليين والمتطفلين.. وصار خبر سقوط النيزك الأسود والمرصع بملايين الحبيبات الضاوية, خبر الساعة.. واحتل العناوين الرئيسية في صحف العالم واذاعاته المسموعة والمرئية ووكالات أنبائه المختلفة...
ولاحقه الرجل الضخم متسائلا في حيرة: بل و.. تلاحقت.. في الشهور المتعاقبة أنباء تفيد.. سقوط المزيد من النيازك ببلدان عدة متفرقة.. في أفريقيا وآسيا وأمريكا وأوروبا وعدد من الجزر.. فأي مصادفة ساقها القدر في ذلك النصف الثاني عام2004 بالذات؟
في حين أضاف طبيب الأسنان: أما أنا فأذكر أن الخبراء قدروا وزن النيزك بأحد عشر طنا.. ولما حاولوا رفعه فشلوا فالتربة طينية رخوة وقد غاص في أعماقها الي نحو ثلثيه.. فاكتفوا بتصويره وأخذ عينات من سطوحه أثبت تحليلها أن تكوين مادته هو خليط من النيكل والحديد والسيلكا...
عاد السويفي بوجه كلامه الي الرجل الضخم وركن فمه تحتله لفافة جديدة لم يشعلها بعد...
ـ ولعل الاشاعة التي تناقلها الأهالي عن البركة التي يحملها النيزك وسره الفعال في شفاء المرضي أو قضاء الحاجة وجلب الخلفة وما أشبه, قد أضافت عبئا ثقيلا عليك.. فتهاويت.. مرضت.. من كثرة ما توافد عليك من زوار.. وفشلت أنا وغيري في التسرية عنك.. حتي هجرت المنطقة بأسرها دون أن يمنع ذلك أحدا من استباحة المكان في غيابك...
أبطل الرجل الضخم جهاز التحكم الآلي.. استلم قياد أزرار المركبة مرة أخري.. وقال وعيناه تجوبان مسارا مألوفا لا يشغله عما يتزاحم في رأسه: لقد تعودت ذلك كله.. وأكثر منه.. كما تعودت اجابة العديد والغريب من الأسئلة التي لاحقني بها الجميع وأولهم الصحفيون.. وكأنني الذي وضعت النيزك في حديقتي بإرادتي.. ومطلق رغبتي.. وبالتالي أعرف كل كبيرة وصغيرة عنه...... لكن بمرور الوقت هدأت الضجة وقل حماس الناس حتي نسوه ونسوني.. بل أنا نفسي تعودت علي رؤية النيزك وسلمت بوجوده فأعدت زراعة أشجار البرقوق من حوله.. فنمت وحجبت معظمه بأغصانها.. آه... الي أن حدث منذ يومين الذي حدث.. الي أن.. شاهدت الهول بعيني يطل من جوفه...
***
وهدأت المركبة من اندفاعها فقد بلغت طرف قرية النعسانين بالبحيرة.. لتستكين في النهاية تحت شجرة وارفة تواجه بابا حديديا ضخما.. ويمتد علي جانبيه سور حجري لا يقل ارتفاعه عن أربعة أمتار.. ولمس الرجل الضخم زرا فانفتحت طاقة بالمركبة لينفلت منها الي الخارج ويتجه رأسا الي الباب الحديدي وينحني قبالته ليخرج مفاتيحه... وهو يقول:
ـ لقد أغلقت الحديقة علي ما فيها أخيرا.. وهل أسمح لمخلوق أن يري الذي رأيت, فيشيع الذعر في القرية؟
وبينما يدلف مرافقوه الواحد تلو الآخر من ضلفة الباب المفتوحة توقف الرجل يراقب الحقول الساكنة بامتداد بصره.. ويحدق الي ما وراء السور وعبر المصرف والي بداية الطريق الزراعي الذي لفظهم.. ثم لمح ساعة معصمة تشير الي السابعة الا ربعا.. لايزال الوقت مبكرا.. فأسرع يلحق بصحبة وهو يحدث نفسه كما قدرت. لم أخبر أحدا, فلا أحد جاء ولا أحد ينتظر قدومي...
.......... خطا الأربعة أسفل التكعيبة في صمت...
كان الجو يميل الي البرودة.. وقد بلل الندي وجوههم وملابسهم.. واستقبلتهم أشجار البرقوق في وجوم.. حتي نقيق الضفادع تعالي واهنا.. قلقا...
ـ في هذا الاتجاه...
وتقدمهم الرجل الضخم فاتبعوه متلهفين متحفزين.... هل فجر النيزك تحته بئر بترول أو كشف كنزا.. أم عثر بين مكوناته علي عرق معدن ثمين.. كالذهب مثلا.. أم تراه بقوامه الثقيل قد غار في التربة واختفي ليمد الأشجار بعنصر قوي يغذيها فتشمخ وتتعملق!!!........ الا أن الرجل كف عن التقدم عند نهاية التكعيبة.. استدار يواجههم وشعاع من الشمس يسقط مباشرة علي نصف وجهه...
ـ لنتوقف لحظة.. أولا..
وأمسك بقوة جذع عنباية ملتويا.. تشبث به.. وقد اكفهرت سحنته فبدت وكأنه لا يقوي علي الوقوف والكلام...
ـ منذ يومين.. جئت في مهمة.. محمد.. هنيدي.. الخفير.. كان مريضا بينما عمه وشقيقه مسافران.. لقد تعودت أن أرعاه كابن لي فهو انسان مخلص وأمين.. لكني ولله الحمد وجدته معافا.... فاتجهت الي منزلي.. وفي العاشرة مساء تقريبا أكلت فطيرة بالعسل ومعهما وعاء من اللبن الزبادي.. وكانت الليلة معتمة بلا قمر.. بل بدت جوانب الحديقة حالكة مقبضة.. لذلك بكرت باغلاق باب الحديقة من الداخل وكذا باب المنزل.. ووضعت مسدسي تحت الوسادة وتهيأت للنوم......
الا أنني تنبهت فزعا علي دمدمة خافتة تتحول الي طنين.. وتصاحبها رجفة آخذة في الازدياد. وتحول الأمر الي نوع من الفرقعة المكتومة.. في البداية كانت مكتومة ثم أخذت تتلاحق سريعا.. فظننتها بداية ماس كهربائي أصاب أسلاك الحديقة.. وامتد لمخزن أدوات الزراعة والكيماويات...
والتقط الرجل مزيدا من أنفاسه.. كان يسترجع واقعا مرعبا.. مدمرا...
ـ خفت الحريق.. فاندفعت أفتح الباب وأنقذف خارجه بجلبية نومي.. للوهلة الأولي لم أر شيئا.. تتبعت الأصوات إلي أن بلغت نهاية التكعيبة إلي هنا.. أغلق الرجل فاه.. عض شفته والتفت في ضياع يمينا.. ورغم وهج الشمس الذي أبرز حافة السور وممرات البلاط الرفيعة وأنا أري وجهه, فقد اتضحت قسماته مسحوقة.. متيبسة.. كقسمات ميت...
ومد ذراعه بطوله واستل أصبعا وحشيا أشار به الي الجزء المعتم عند أقصي تجمع شجيرات البرقوق...
ـ كان الوميض والتفجر يأتيان من هذا الركن...... وبينما ينتزع الرجل قدما مترددة في اتجاه سيرة البطيء, وحلقه أو جوفه يخرج نبرات أجشة.... تري فما الذي أصاب النيزك؟ واقتربت في حذر.. وصفعني ما لم تصدقه عيناي.. كانت السطوح الصخرية للنيزك تطلق شررا.. تنكمش.. تتقوس.. ثم تتمزق قطعا وأجزاء, وتنقذف بعيدا في كل اتجاه.. كانت قمة النيزك البارزة تتناثر تماما كما يتناثر الطين والأتربة من قمة بركان.. وفي النهاية باغتني المشهد الأخاذ... ومد الرجل عشر أصابع متشنجة لا تمت الي بدنه بصلة يزيح بهما أغصان البرقوق.. كاشفا عما وراءها...
وجحظت ست عيون..........
جحظت وقفزت من محاجرها واصطدمت بجدار أصم لترتد في الحال وهي ترتجف.. ثم عادت تحاول الانتحار...... لقد تقوس ضياء الشمس وانزلقت الشمس من أعلي السور وبالكاد تسللت الي قلب المشهد.. بعد أن انجابت عنه صخوره أو دروعه أو قشوره.. وداخل ما يشبه حجرة بيضاوية من النور البهي للغاية, استقرت خمسة أشكال هاجعة.. محدقة.. لخمسة كائنات قزمية مموهة التفاصيل...
أطلق جورج طبيب الأسنان صرخة: يا إلهي...
في حين تراجع عزالدين مهندس الكهرباء وهو يئن: شيء.. لا يصدق...؟
ولدقائق سيطر صمت تعكره حشرجة أنفاس مختنقة حتي تعالي همس أحمد السويفي من غور بئر سحيقة...
ـ هذه.. بالتأكيد.. سفينة فضاء أو قذيفة كونية.. وهؤلاء ملاحوها.. جاءوا بها من كوكب قصي....
وكان السويفي يتكلم بصوت خفيض كأنه يخشي أن يوقظ الكائنات الراقدة في تشكيل هندسي تتباعد فيه الأقدام وتتقارب فيه الرءوس.. وقد لفوا بتلك الأشرطة العريضة في تواز لغرض مجهول...
ـ آه آه.. لقد خمنت ذلك.. لابد أن يكونوا أذكياء.. وقد قدموا من كوكب من كواكب السماء المسكونة.. أرأيتم.. أليس هولا أن يجيئوا الينا ونواجههم دون علم بمقدمهم.. فكيف أتصرف حيالهم.... ما الحل.. ما الحل؟؟..
***
شل الرجال الثلاثة ومعهم مضيفهم.. تجمدوا جميعا.. وعادت أعينهم تتزاحم في التسلل الي الحجرة البللورية وبها كائناتها الهاجعة.. تحاول سبر غورها.. تحاول نبش وانتزاع كل معلومة في طياتها وان شذت.. ونأت عن التصور...
همس همس.. همس غير آدمي.. ممطوط هفهاف......
هادئ.. هادئ كأنه أزلي.......
يقطر حنانا وعذوبة.............. يقطر رحيقا......
ايها الأرضيون ـ أنتم ـ الأربعة الواقفون ـ انتم الحياري ازاءنا ـ لقد بعثوا بنا من كوكبنا البعيد ـ من قلب المجرة ـ اليكم مباشرة ـ ـ ـ نحن ـ ومعنا آخرون ـ ارسلنا اليكم بعد أن استفحل أمركم ـ فأنتم ـ تلعبون بالعلم عبر ثنايا دنياكم كما تسمونها لعبة سيئة ـ خائنة ـ بل وتستخدمون منجزات العلم أسوأ استخدام ـ أيها الأرضيون التعساء ـ لقد أطلقتم مردة الفناء ـ وآخرها مارد الدمار الشامل بأوجهه المتعددة ـ ـ التي تعني هلاككم ـ وهلاك غيركم ـ وأيضا هلاكنا نحن أهل السماء ـ سكان الكون ـ ايها الأربعة الواقفون ـ لقد ضبط التوقيت ـ وأزف الميعاد ـ حينما تزداد الضغوط ويعم القهر ـ حينما تزداد الضغوط ويعم القهر ـ حينما يستفحل التلوث ـ ويسود العدوان ـ وينتشر الخطر ـ ـ ـ تضاء اللمبات ـ تصرخ الأجهزة ـ فتنبثق كرتنا ـ زهرتنا ـ من قلب الأبدية ـ وننطلق نحن ـ ـ رسل السلام وحراس المجرة ـ ينفذ كل واحد منا الي جسد واحد منكم ـ يستكين فيه ـ يستخدمه ـ يقوده الي بؤر الافناء ـ لنمحوها سويا ـ ـ ـ لصالح وجودكم ووجودنا ـ وبقائكم وبقائنا ـ ولسلامة كافة كائنات المجرة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ كل واحد منا ينفذ الي منكم ـ الي واحد منكم ـ الي واحد منكم ـ ـ ـ ويزداد الهمس.. وخدر الأربعة المحملقين.. المجمدين.. المتخبطين بين الرفض واليقين... لدي أربعتهم الوعي لكن تحيطهم آلاف القيود.. ملايين الأغلال والأستار...
............ ويزداد الهمس.. ويزداد الخدر... نحن خمسة وافدون ـ نحتاج خمسة أرضيين ـ أربعة منا ينفذون الآن الي أجساد أربعتكم ـ ويبقي واحد ـ يحتاج ـ يبحث ـ عن جسد خامس لينفذ فيه ـ ومتي امتلكنا أجسادكم ـ سنقوم ـ كما قام غيرنا من قبل في أزمنة نائية متفرقة ـ ويقوم غيرنا الآن في أماكن شتي من دنياكم ـ بأداء الرسالة الكبري مع نوعية البشر المعروفين بالأنانية ـ الحمق ـ التعدي ـ حب التدمير والقتل ـ سنعلمهم كيف يلعبون بالعلم لعبة نظيفة ـ مفيدة ـ وكيف يستخدمون منجزات العلم ـ في الخير ـ النماء ـ التحضر الحقيقي ـ السلام ـ ـ ـ. وبينما تنهض الكائنات القزمية وتتسلل فيما يشبه البخر.. فيما يماثل الحلم.. في يسر.. في يسر.. الي أغوار الرجال الأربعة.. وتنفرش بكيفية ما.... مسيطرة.. وممتلكة لكياناتهم... يظل الهمس يردد.............
يبقي واحد منا ـ يحتاج ـ يبحث ـ عن جسد خامس ـ ـ ـ.
ومن بعيد يقترب صوت صرير صديء.. من أقصي طرف حديقة البرقوق.. وينفتح باب.. ويطل رأس أسمر لشاب يفيض بالعزم والحيوية...
ـ أنت جئت ياأستاذ.. أري مركبتك بأول الحديقة.. فأين تجلس يا سيدي.... أنا محمد هنيدي.. الخفير.. لكن بالله أين أجدك؟