منتديات الشاعر المصرى عبداللطيف مبارك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


أدب . فن تشكيلى . كومبيوتر . جوال . فضائيات . أسرة وطفولة . إسلاميات
 
الرئيسيةlatifأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 حراس المجرة بقلم‏:‏ نهـــاد شـــريف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبداللطيف مبارك
Admin
عبداللطيف مبارك


عدد المساهمات : 888
تاريخ التسجيل : 07/04/2008

حراس المجرة     بقلم‏:‏ نهـــاد شـــريف Empty
مُساهمةموضوع: حراس المجرة بقلم‏:‏ نهـــاد شـــريف   حراس المجرة     بقلم‏:‏ نهـــاد شـــريف I_icon_minitimeالثلاثاء يونيو 29, 2010 5:59 pm

كان الضباب رماديا عكرا يغطي كافة الدور والأشجار ويموه معالمها‏,‏ كما كان السكون ثقيلا صارخا يجثم بطول المنطقة وعرضها وأعماقها‏,‏ فرغم أن شارع الهرم واحد من أماكن العاصمة التي لا تكف عن الصخب والضجيج نهارا ولا تعرف النوم ليلا‏,‏ فإنه علي غير العادة قد كف عن الحركة وانطبقت أجفانه وقطع النفس في تلك الساعة المبكرة من فجر اليوم الثالث من أول شهور عام‏2010,‏ فعلي ما يبدو قد استنفد الناس طاقاتهم لذراها في اليومين السابقين احتفالا مجنونا بحلول العام الجديد ومرور عشرة أعوام من القرن الواحد والعشرين معا‏,‏ وهو احتفال فريد لم يتأجج الهرم فحسب وانما اشتعلت به أنحاء كوكب الأرض كلها وبكيفية محمومة لم تعرف قبلا‏...‏ عام يتراءي مغلقا مبهما‏,‏ وقرن ولجنا عشره وبقي أغلبه تلفه الخفايا ويجثم عليه مصير لايزال في طي الغيب‏,‏ يتألقان سويا‏,‏ يقفان علي الأبواب‏,‏ فيالها من مناسبة تطوي البشرية وتغرقها في أحلامها الوردية‏...‏ وتنفلت من ثنايا الضباب بقعة سداسية الزوايا‏,‏ قاتمة بلا لون يميزها‏,‏ لتروح تتقدم حثيثا عبر المصابيح العاجزة عن تبديد العتمة‏,‏ وقد تميزت علي مكونات الشارع الهاجع باليقظة ونبضت دونه بالوعي والانتباه‏,‏ كانت البقعة القاتمة الآتية أصلا من ضاحية‏6‏ أكتوبر قد غادرت منذ دقائق احدي الفيلات المشيدة اسفل الهرم ذاته‏,‏ وقطعت ثلثي الشارع العتيد قبل أن تتوقف لدي فيلا ثانية تجاور ملهي الأوبرج المجدد‏,‏ وعادت فقطعت مسافة أخري حتي مبني العمارة المواجهة لمبني المحافظة الأثري‏,‏ ثم اجتازت الطابق الأوسط من النفق وطوت ميدان الجيزة في عجلة الي أن جمدت للمرة الثالثة قبالة الفيلا الملاصقة لما كان يعرف بمكتب الشهر العقاري‏...‏

وما إن أغلق الباب واستقر ثالث الرجال بالداخل‏,‏ حتي اطمأنت البقعة القاتمة علي تمام حمولتها فانطلقت يسارا عبر شارع الجيزة الطويل العريض والمختنق أيضا بضباب أكثر كثافة وأشد عتمة‏,‏ انطلقت مباشرة بكامل سرعتها الصاروخية وقد ارتفعت هامتها عن نهر الشارع بنحو المتر‏,‏ واشرأبت مقدمتها بينما تهتز وتتمايل في حفيف مكتوم‏...‏
أخيرا تنحنح الرجل ضخم الجثمان‏,‏ ترك أزرار القيادة الي جهاز التحكم الآلي‏,‏ واستدار يتمتم في صوت خافت‏:‏ حقيقة أنا مقدر لثلاثتكم تلبية دعوتي العجلة هذه‏...‏

لم يجبه واحد من رفاقه الثلاثة المنكمشين علي مقاعدهم‏,‏ فقط استمرت البقعة القاتمة في سحب دمائهم ونخاعهم أياما خلال طيات الضباب طية من داخل طية‏,‏ حتي احتواهم طريق الزراعات الكيميائية المصنفة والآخذ اتجاه الشمال‏...‏
ـ ظننت أن سهرات الأعياد شغلتكم‏,‏ وربما أرهقتكم‏,‏ فلا تستجيبون لرجائي‏...‏

وتطلع يحاول اختراق الظلمة عله يقرأ وجوه زملائه‏..‏ لكنكم لم تخزلوني‏,‏ خيرا فعلتم‏,‏ بل الخير لكم فإن ما سترونه يفوق حفلا ساهرا أو سواه‏...‏
وصمت فقد كانوا يجتازون اختناقا في الطريق يملؤه رتل من البرمائيات العسكرية القادمة من اتجاه عكسي‏,‏ كما ملأه كم من الأضواء مبهر أخاذ‏...‏

وتابع‏:‏ فلما لقيت الأمر بالغ الغرابة‏..‏ وخطيرا كذلك‏..‏ وفي تقديري لا يحتمل أي تأخير‏..‏ لم أجد مفرا من اللجوء الي أقرب أصدقائي‏..‏ أنت يا عزالدين‏..‏ وجورج والسويفي‏..‏ لتشاهدوا الهول الذي رأيت ولتمدوني بالرأي والنصيحة‏...‏
وانتهي مرور البرمائيات العسكرية وعاد الطريق إلي سابق رحابته‏..‏ وسابق اظلامه‏...‏

بغتة سأله الجالس خلفه‏,‏ مهندس الكهرباء عزالدين بدوي وهو قصير بدين يملأ شاربه نصف وجهه‏...‏
ـ ألهذه الدرجة تسمي ما رأيت‏..‏ هولا؟

في حين قال المجاور للمتكلم في الجلوس خلفا‏..‏ طبيب الأسنان جورج جيد وهو فارع نحيف يتدثر في معطف شفاف من المواد الرقيقة المانعة للبرد‏...‏
ـ لكن‏......‏ ألسنا في سبيلنا الي قرية النعسانين‏..‏ حيث توجد عزبتك وبيتك الريفي؟
اعتدل الرجل الضخم حتي لامست رأسه السقف‏..‏ نزع عويناته في حركة عصبية وظل محتفظا بها في يده الضخمة‏...‏

ـ أجل نحن ذاهبون بالفعل الي منزلي الريفي‏..‏ ففيه رأيت الذي رأيت وكان هولا بكل معني الكلمة‏...‏
عندئذ تنبه الجالسون الي اتضاح بعض معالم الطريق‏..‏ وتنبهوا أيضا أن السبب هو بزوغ ضياء الفجر وتسلله عبر السحب والضباب فيما وراء التلة البعيدة علي يمينهم من جهة الشرق‏..‏

ألقي الرجل الضخم نظرة روتينية علي عدادات التحكم الآلي‏..‏ اطمأن‏..‏ عاد يهتف وهو يفرج عن آهة حبيسة‏...‏
ـ لم يتبق أمامنا الكثير حتي نصل‏..‏ نحو ثلثي الساعة وبضعة كيلومترات‏..‏ لكنها كافية لأقص عليكم أحداثا جرت بحديقة منزلي الريفي منذ خمسة أو ستة أعوام مضت‏..‏ ولا ريب أن صديقي السويفي يعيها مثلي‏..‏ فقد كنت أنا وهو وخفير العزبة دون غيرنا من رأوها وعاشوا لحظاتها المرعبة‏...‏

تململ أحمد السويفي ضابط المدفعية بالمعاش والجالس علي يمين الرجل الضخم‏..‏ وأخرج علبة لفائفه وراح يشعل بأصابعه الموسيقية لفافة‏:‏ بالطبع‏..‏ بالطبع‏..‏ وبأدق التفاصيل‏...‏
بينما سعل عزالدين وأسرع يخرج بدوره علبة لفائفه وهو يعلن مأخوذا‏:‏ تقصد ان حادثة النيزك التي ظلت شاغل العالم طيلة عامين أو يزيد‏...‏

غير أن قوة علي الأرض لم تكن تمنع السويفي في هذه اللحظة من التركيز والتمهل ليأخذ ناصية الكلام دون عصبية عن أحداث انطبعت عميقة‏..‏ ومخيفة‏..‏ في ذاكرته‏......‏ وفي حين تتضح البقعة القاتمة في ضوء الصبح مركبة صاروخية لا تألو تندفع بهم في اصرار‏..‏ راح صوت الرجل الجهوري يتعالي علي حفيف المركبة وعلي اهتزازها المتزايد‏...‏
ـ ياه‏..‏ دعني أقصها أنا‏..‏ حيث استضفتني في ذلك اليوم البعيد الثاني من سبتمبر عام‏2004‏ بمنزلك الريفي‏..‏ كنت تجري عددا من الاصلاحات في طلمبة المياه الشمسية وتشيد تكعيبة العنب وما أشبه‏..‏ وكنا نمضي الصباح في العمل والمساء في السمر‏..‏ وفي ليل اليوم السادس‏7‏ منه وأنا أتذكره جيدا‏..‏ وتحت وطأة قيظ ورطوبة غير عاديين وكان الناموس يلاحقنا أيضا بلسعاته المؤلمة‏,‏ هرب منا النوم‏..‏ فغادرنا المنزل والحديقة قرابة منتصف الليل‏..‏ وانطلقنا نتريض معا علي حافة حقل الذرة القبلي يرافقنا رجلك خفير العزبة الطيب‏..‏ هنيدي‏..‏ نخبره بالجديد في المدينة ونستمع الي نوادره الريفية البريئة‏..‏ حينما‏....‏ ومض فجأة ضوء في السماء‏..‏ ولم نكد نلتقط أنفاسنا الا وأخذت كرة النور اللافحة تكبر وتزداد سطوعا وهي تتهاوي في سرعة البرق تجاهنا‏..‏ مخلفة وراءها ذيلا قصيرا لامعا‏..‏ وخلال ثوان ونحن بعد حياري‏..‏ محملقين‏..‏ مبهوتين‏..‏ استقر الجرم المضيء في حديقة المنزل محدثا هزة عنيفة ألقت بنا أرضا‏..‏ وأسقطت أجزاء من السور وعدة أعمدة للكهرباء بأسلاكها لنصاب وقتها بنوع من العمي الوقتي نتج عن ملاحقة أعيننا للضوء المبهر‏..‏ وحين تساندنا وانتصبنا
واقفين اكتشفنا احتراق رقاع بملابسنا وأطراف من شعر رءوسنا وحواجبنا ورموشنا‏..‏ بينما رحنا نسعل بشدة وكأن مادة لاسعة مست حناجرنا‏....‏

‏***‏
بغتة توقف الكلام وعدنا الي واقعنا مع اتخاذ المركبة ونحن بداخلها مسارا منحنيا حادا‏..‏ بينما مالت الأجساد بعنف‏..‏ وارغمت الأعين علي التطلع عبر النوافذ تتبين معالم الطريق والمزروعات الضائعة معالمها لما يغطيها من أتربة معلقة أبانتها الأشعة الذهبية والتي بددت الضباب وأظهرت أعماقا باهتة الألوان فقيرة الاخضرار‏...‏
انتهز الرجل الضخم توقف صاحبه عن الكلام وانشغاله بالتطلع مثل زملائه من نافذته‏,‏ فاندفع يكمل في انفعال وتأثر‏,‏ ولاهم لنا حين دلفنا الي الحديقة وجدنا نصف أشجارها من البرقوق قد تفحمت سيقانها واحترقت معظم أغصانها وأوراقها‏....‏ ولهث‏..‏ فقد كان يسترجع مشهدا مفجعا‏...‏

ـ وفي بؤرة الحريق فوجئنا برؤية الزائر المخيف‏..‏ يبرز بقمته من وسط الطين‏..‏ محمرا‏..‏ ضاويا‏..‏ مشعا‏..‏ تصلنا سخونته ونحن علي بعد أمتار‏..‏ وقد أحاطته الأبخرة المتصاعدة من كل جانب وكأن قوامه لايزال مشتعلا‏....‏ وفي التو تأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك‏..‏ أننا بإزاء نيزك شاهدنا سقوطه منذ أول احتكاكه بجو الأرض والي أن هوي واستقر في الحديقة‏..‏
عندئذ تمتم عزالدين مؤكدا‏:‏ وبقية القصة معروف‏..‏ فسرعان ما نشر الخبر في أنحاء البلاد ولف أرجاء عالمنا وسرعان ما أصبحت حديقتك محطا لمئات الصحفيين والخبراء ورجال الدولة وجحافل الفضوليين والمتطفلين‏..‏ وصار خبر سقوط النيزك الأسود والمرصع بملايين الحبيبات الضاوية‏,‏ خبر الساعة‏..‏ واحتل العناوين الرئيسية في صحف العالم واذاعاته المسموعة والمرئية ووكالات أنبائه المختلفة‏...‏

ولاحقه الرجل الضخم متسائلا في حيرة‏:‏ بل و‏..‏ تلاحقت‏..‏ في الشهور المتعاقبة أنباء تفيد‏..‏ سقوط المزيد من النيازك ببلدان عدة متفرقة‏..‏ في أفريقيا وآسيا وأمريكا وأوروبا وعدد من الجزر‏..‏ فأي مصادفة ساقها القدر في ذلك النصف الثاني عام‏2004‏ بالذات؟
في حين أضاف طبيب الأسنان‏:‏ أما أنا فأذكر أن الخبراء قدروا وزن النيزك بأحد عشر طنا‏..‏ ولما حاولوا رفعه فشلوا فالتربة طينية رخوة وقد غاص في أعماقها الي نحو ثلثيه‏..‏ فاكتفوا بتصويره وأخذ عينات من سطوحه أثبت تحليلها أن تكوين مادته هو خليط من النيكل والحديد والسيلكا‏...‏

عاد السويفي بوجه كلامه الي الرجل الضخم وركن فمه تحتله لفافة جديدة لم يشعلها بعد‏...‏
ـ ولعل الاشاعة التي تناقلها الأهالي عن البركة التي يحملها النيزك وسره الفعال في شفاء المرضي أو قضاء الحاجة وجلب الخلفة وما أشبه‏,‏ قد أضافت عبئا ثقيلا عليك‏..‏ فتهاويت‏..‏ مرضت‏..‏ من كثرة ما توافد عليك من زوار‏..‏ وفشلت أنا وغيري في التسرية عنك‏..‏ حتي هجرت المنطقة بأسرها دون أن يمنع ذلك أحدا من استباحة المكان في غيابك‏...‏

أبطل الرجل الضخم جهاز التحكم الآلي‏..‏ استلم قياد أزرار المركبة مرة أخري‏..‏ وقال وعيناه تجوبان مسارا مألوفا لا يشغله عما يتزاحم في رأسه‏:‏ لقد تعودت ذلك كله‏..‏ وأكثر منه‏..‏ كما تعودت اجابة العديد والغريب من الأسئلة التي لاحقني بها الجميع وأولهم الصحفيون‏..‏ وكأنني الذي وضعت النيزك في حديقتي بإرادتي‏..‏ ومطلق رغبتي‏..‏ وبالتالي أعرف كل كبيرة وصغيرة عنه‏......‏ لكن بمرور الوقت هدأت الضجة وقل حماس الناس حتي نسوه ونسوني‏..‏ بل أنا نفسي تعودت علي رؤية النيزك وسلمت بوجوده فأعدت زراعة أشجار البرقوق من حوله‏..‏ فنمت وحجبت معظمه بأغصانها‏..‏ آه‏...‏ الي أن حدث منذ يومين الذي حدث‏..‏ الي أن‏..‏ شاهدت الهول بعيني يطل من جوفه‏...‏

‏***‏
وهدأت المركبة من اندفاعها فقد بلغت طرف قرية النعسانين بالبحيرة‏..‏ لتستكين في النهاية تحت شجرة وارفة تواجه بابا حديديا ضخما‏..‏ ويمتد علي جانبيه سور حجري لا يقل ارتفاعه عن أربعة أمتار‏..‏ ولمس الرجل الضخم زرا فانفتحت طاقة بالمركبة لينفلت منها الي الخارج ويتجه رأسا الي الباب الحديدي وينحني قبالته ليخرج مفاتيحه‏...‏ وهو يقول‏:‏
ـ لقد أغلقت الحديقة علي ما فيها أخيرا‏..‏ وهل أسمح لمخلوق أن يري الذي رأيت‏,‏ فيشيع الذعر في القرية؟

وبينما يدلف مرافقوه الواحد تلو الآخر من ضلفة الباب المفتوحة توقف الرجل يراقب الحقول الساكنة بامتداد بصره‏..‏ ويحدق الي ما وراء السور وعبر المصرف والي بداية الطريق الزراعي الذي لفظهم‏..‏ ثم لمح ساعة معصمة تشير الي السابعة الا ربعا‏..‏ لايزال الوقت مبكرا‏..‏ فأسرع يلحق بصحبة وهو يحدث نفسه كما قدرت‏.‏ لم أخبر أحدا‏,‏ فلا أحد جاء ولا أحد ينتظر قدومي‏...‏
‏..........‏ خطا الأربعة أسفل التكعيبة في صمت‏...‏

كان الجو يميل الي البرودة‏..‏ وقد بلل الندي وجوههم وملابسهم‏..‏ واستقبلتهم أشجار البرقوق في وجوم‏..‏ حتي نقيق الضفادع تعالي واهنا‏..‏ قلقا‏...‏
ـ في هذا الاتجاه‏...‏

وتقدمهم الرجل الضخم فاتبعوه متلهفين متحفزين‏....‏ هل فجر النيزك تحته بئر بترول أو كشف كنزا‏..‏ أم عثر بين مكوناته علي عرق معدن ثمين‏..‏ كالذهب مثلا‏..‏ أم تراه بقوامه الثقيل قد غار في التربة واختفي ليمد الأشجار بعنصر قوي يغذيها فتشمخ وتتعملق‏!!!........‏ الا أن الرجل كف عن التقدم عند نهاية التكعيبة‏..‏ استدار يواجههم وشعاع من الشمس يسقط مباشرة علي نصف وجهه‏...‏
ـ لنتوقف لحظة‏..‏ أولا‏..‏

وأمسك بقوة جذع عنباية ملتويا‏..‏ تشبث به‏..‏ وقد اكفهرت سحنته فبدت وكأنه لا يقوي علي الوقوف والكلام‏...‏
ـ منذ يومين‏..‏ جئت في مهمة‏..‏ محمد‏..‏ هنيدي‏..‏ الخفير‏..‏ كان مريضا بينما عمه وشقيقه مسافران‏..‏ لقد تعودت أن أرعاه كابن لي فهو انسان مخلص وأمين‏..‏ لكني ولله الحمد وجدته معافا‏....‏ فاتجهت الي منزلي‏..‏ وفي العاشرة مساء تقريبا أكلت فطيرة بالعسل ومعهما وعاء من اللبن الزبادي‏..‏ وكانت الليلة معتمة بلا قمر‏..‏ بل بدت جوانب الحديقة حالكة مقبضة‏..‏ لذلك بكرت باغلاق باب الحديقة من الداخل وكذا باب المنزل‏..‏ ووضعت مسدسي تحت الوسادة وتهيأت للنوم‏......‏

الا أنني تنبهت فزعا علي دمدمة خافتة تتحول الي طنين‏..‏ وتصاحبها رجفة آخذة في الازدياد‏.‏ وتحول الأمر الي نوع من الفرقعة المكتومة‏..‏ في البداية كانت مكتومة ثم أخذت تتلاحق سريعا‏..‏ فظننتها بداية ماس كهربائي أصاب أسلاك الحديقة‏..‏ وامتد لمخزن أدوات الزراعة والكيماويات‏...‏
والتقط الرجل مزيدا من أنفاسه‏..‏ كان يسترجع واقعا مرعبا‏..‏ مدمرا‏...‏

ـ خفت الحريق‏..‏ فاندفعت أفتح الباب وأنقذف خارجه بجلبية نومي‏..‏ للوهلة الأولي لم أر شيئا‏..‏ تتبعت الأصوات إلي أن بلغت نهاية التكعيبة إلي هنا‏..‏ أغلق الرجل فاه‏..‏ عض شفته والتفت في ضياع يمينا‏..‏ ورغم وهج الشمس الذي أبرز حافة السور وممرات البلاط الرفيعة وأنا أري وجهه‏,‏ فقد اتضحت قسماته مسحوقة‏..‏ متيبسة‏..‏ كقسمات ميت‏...‏
ومد ذراعه بطوله واستل أصبعا وحشيا أشار به الي الجزء المعتم عند أقصي تجمع شجيرات البرقوق‏...‏

ـ كان الوميض والتفجر يأتيان من هذا الركن‏......‏ وبينما ينتزع الرجل قدما مترددة في اتجاه سيرة البطيء‏,‏ وحلقه أو جوفه يخرج نبرات أجشة‏....‏ تري فما الذي أصاب النيزك؟ واقتربت في حذر‏..‏ وصفعني ما لم تصدقه عيناي‏..‏ كانت السطوح الصخرية للنيزك تطلق شررا‏..‏ تنكمش‏..‏ تتقوس‏..‏ ثم تتمزق قطعا وأجزاء‏,‏ وتنقذف بعيدا في كل اتجاه‏..‏ كانت قمة النيزك البارزة تتناثر تماما كما يتناثر الطين والأتربة من قمة بركان‏..‏ وفي النهاية باغتني المشهد الأخاذ‏...‏ ومد الرجل عشر أصابع متشنجة لا تمت الي بدنه بصلة يزيح بهما أغصان البرقوق‏..‏ كاشفا عما وراءها‏...‏
وجحظت ست عيون‏..........‏
جحظت وقفزت من محاجرها واصطدمت بجدار أصم لترتد في الحال وهي ترتجف‏..‏ ثم عادت تحاول الانتحار‏......‏ لقد تقوس ضياء الشمس وانزلقت الشمس من أعلي السور وبالكاد تسللت الي قلب المشهد‏..‏ بعد أن انجابت عنه صخوره أو دروعه أو قشوره‏..‏ وداخل ما يشبه حجرة بيضاوية من النور البهي للغاية‏,‏ استقرت خمسة أشكال هاجعة‏..‏ محدقة‏..‏ لخمسة كائنات قزمية مموهة التفاصيل‏...‏

أطلق جورج طبيب الأسنان صرخة‏:‏ يا إلهي‏...‏
في حين تراجع عزالدين مهندس الكهرباء وهو يئن‏:‏ شيء‏..‏ لا يصدق‏...‏؟

ولدقائق سيطر صمت تعكره حشرجة أنفاس مختنقة حتي تعالي همس أحمد السويفي من غور بئر سحيقة‏...‏
ـ هذه‏..‏ بالتأكيد‏..‏ سفينة فضاء أو قذيفة كونية‏..‏ وهؤلاء ملاحوها‏..‏ جاءوا بها من كوكب قصي‏....‏

وكان السويفي يتكلم بصوت خفيض كأنه يخشي أن يوقظ الكائنات الراقدة في تشكيل هندسي تتباعد فيه الأقدام وتتقارب فيه الرءوس‏..‏ وقد لفوا بتلك الأشرطة العريضة في تواز لغرض مجهول‏...‏
ـ آه آه‏..‏ لقد خمنت ذلك‏..‏ لابد أن يكونوا أذكياء‏..‏ وقد قدموا من كوكب من كواكب السماء المسكونة‏..‏ أرأيتم‏..‏ أليس هولا أن يجيئوا الينا ونواجههم دون علم بمقدمهم‏..‏ فكيف أتصرف حيالهم‏....‏ ما الحل‏..‏ ما الحل؟؟‏..‏

‏***‏
شل الرجال الثلاثة ومعهم مضيفهم‏..‏ تجمدوا جميعا‏..‏ وعادت أعينهم تتزاحم في التسلل الي الحجرة البللورية وبها كائناتها الهاجعة‏..‏ تحاول سبر غورها‏..‏ تحاول نبش وانتزاع كل معلومة في طياتها وان شذت‏..‏ ونأت عن التصور‏...‏
همس همس‏..‏ همس غير آدمي‏..‏ ممطوط هفهاف‏......‏

هادئ‏..‏ هادئ كأنه أزلي‏.......‏
يقطر حنانا وعذوبة‏..............‏ يقطر رحيقا‏......‏

ايها الأرضيون ـ أنتم ـ الأربعة الواقفون ـ انتم الحياري ازاءنا ـ لقد بعثوا بنا من كوكبنا البعيد ـ من قلب المجرة ـ اليكم مباشرة ـ ـ ـ نحن ـ ومعنا آخرون ـ ارسلنا اليكم بعد أن استفحل أمركم ـ فأنتم ـ تلعبون بالعلم عبر ثنايا دنياكم كما تسمونها لعبة سيئة ـ خائنة ـ بل وتستخدمون منجزات العلم أسوأ استخدام ـ أيها الأرضيون التعساء ـ لقد أطلقتم مردة الفناء ـ وآخرها مارد الدمار الشامل بأوجهه المتعددة ـ ـ التي تعني هلاككم ـ وهلاك غيركم ـ وأيضا هلاكنا نحن أهل السماء ـ سكان الكون ـ ايها الأربعة الواقفون ـ لقد ضبط التوقيت ـ وأزف الميعاد ـ حينما تزداد الضغوط ويعم القهر ـ حينما تزداد الضغوط ويعم القهر ـ حينما يستفحل التلوث ـ ويسود العدوان ـ وينتشر الخطر ـ ـ ـ تضاء اللمبات ـ تصرخ الأجهزة ـ فتنبثق كرتنا ـ زهرتنا ـ من قلب الأبدية ـ وننطلق نحن ـ ـ رسل السلام وحراس المجرة ـ ينفذ كل واحد منا الي جسد واحد منكم ـ يستكين فيه ـ يستخدمه ـ يقوده الي بؤر الافناء ـ لنمحوها سويا ـ ـ ـ لصالح وجودكم ووجودنا ـ وبقائكم وبقائنا ـ ولسلامة كافة كائنات المجرة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ كل واحد منا ينفذ الي منكم ـ الي واحد منكم ـ الي واحد منكم ـ ـ ـ ويزداد الهمس‏..‏ وخدر الأربعة المحملقين‏..‏ المجمدين‏..‏ المتخبطين بين الرفض واليقين‏...‏ لدي أربعتهم الوعي لكن تحيطهم آلاف القيود‏..‏ ملايين الأغلال والأستار‏...‏

‏............‏ ويزداد الهمس‏..‏ ويزداد الخدر‏...‏ نحن خمسة وافدون ـ نحتاج خمسة أرضيين ـ أربعة منا ينفذون الآن الي أجساد أربعتكم ـ ويبقي واحد ـ يحتاج ـ يبحث ـ عن جسد خامس لينفذ فيه ـ ومتي امتلكنا أجسادكم ـ سنقوم ـ كما قام غيرنا من قبل في أزمنة نائية متفرقة ـ ويقوم غيرنا الآن في أماكن شتي من دنياكم ـ بأداء الرسالة الكبري مع نوعية البشر المعروفين بالأنانية ـ الحمق ـ التعدي ـ حب التدمير والقتل ـ سنعلمهم كيف يلعبون بالعلم لعبة نظيفة ـ مفيدة ـ وكيف يستخدمون منجزات العلم ـ في الخير ـ النماء ـ التحضر الحقيقي ـ السلام ـ ـ ـ‏.‏ وبينما تنهض الكائنات القزمية وتتسلل فيما يشبه البخر‏..‏ فيما يماثل الحلم‏..‏ في يسر‏..‏ في يسر‏..‏ الي أغوار الرجال الأربعة‏..‏ وتنفرش بكيفية ما‏....‏ مسيطرة‏..‏ وممتلكة لكياناتهم‏...‏ يظل الهمس يردد‏.............‏
يبقي واحد منا ـ يحتاج ـ يبحث ـ عن جسد خامس ـ ـ ـ‏.‏

ومن بعيد يقترب صوت صرير صديء‏..‏ من أقصي طرف حديقة البرقوق‏..‏ وينفتح باب‏..‏ ويطل رأس أسمر لشاب يفيض بالعزم والحيوية‏...‏
ـ أنت جئت ياأستاذ‏..‏ أري مركبتك بأول الحديقة‏..‏ فأين تجلس يا سيدي‏....‏ أنا محمد هنيدي‏..‏ الخفير‏..‏ لكن بالله أين أجدك؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://latifmoubarak.yoo7.com
 
حراس المجرة بقلم‏:‏ نهـــاد شـــريف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الشاعر المصرى عبداللطيف مبارك :: المنتدى الأدبى العام :: منتدى القصة القصيرة-
انتقل الى: