عاد الفنّان السوري يبحث عن مدينته الفاضلة بين خرائب الروح، حيث المكان المشتهى لا ينفصل عن كائناته الغائمة وأشباحه. موعدكم، في «غاليري أيّام»، مع معرض ضخم لأعماله التي تشكّل وثيقة احتجاج بصرية ضدّ هذا الزمن المزيّف
بعد تجوال طويل بين دمشق وبيروت وباريس، قاده إلى تجارب وتيارات مختلفة، تراوح بين التعبيرية والتجريد وصولاً إلى التشخيصية المحدثة، يعود أسعد عرابي إلى منطقته التشكيلية الأثيرة في معرض ضخم تستضيفه حالياً «غاليري أيام» في دمشق تحت عنوان «شاميات».
التشكيلي والناقد السوري البارز ذو الهويات المتعددة، يستعيد مدينته الأولى دمشق بحواريها وأزقّتها وبشرها، لا من منطلق احتفالي ونوستالجي صرف، كما يوحي عنوان المعرض، بل من موقع إدانة واستغاثة ربما، لما أصاب المدينة العريقة من دمار روحي وقبح عمراني. تنسحب هنا الجماليات الجاهزة التي وسمت معظم تجارب المحترف السوري في تناول المدينة العريقة، لمصلحة سرد بصري آخر. سرد تدميري يضاهي ما كتبه زكريا تامر في «دمشق الحرائق» لجهة فضح ما وراء الأبواب المغلقة، وهتك شبحيّتها وأساطيرها، فاللوحة هنا بقدر ما ترصد المدينة لونياً وتعبيرياً، تضيء حوار الداخل وحميمياته وجوّانيته. وإذا بالمشهد ينفتح على وجد وندم في آن واحد، يناوش اليومي والمقيم ويصوغ سيرة مضمرة لبيوت وبشر وأسرار العتبات. هذا الشغف بالمدينة الأولى لا يلغي حال الهجاء لمصابها الأليم والمحزن، لكنّه من جهة أخرى محاولة لترميم الحلم المعطوب وعزله عن كابوسية اللحظة الراهنة وتأليف طبقات حلمية هي في نهاية المطاف، النص المشتهى والمؤجل والآفل.
أسعد عرابي الذي غادر دمشق منتصف سبعينيات القرن المنصرم إلى مغتربه الباريسي، وجد في عودته المتأخرة إلى «اسطنبول الشرق» مدينةً أخرى يكاد لا يعرفها لفرط تدمير نسيجها العمراني وحداثتها العرجاء. كأنها مدينة تتخلّى عن ذاكرتها عمداً لتتحول مكاناً سياحياً ينبذ خصوصيتها المعمارية وروحها الشرقية. المعرض إذاً في واحد من وجوهه، وثيقة احتجاج بصرية ضد وجع مدينة فقدت زينتها وحليّها وأقواسها وبيوتها الطينية، وهو من جهة ثانية محاولة حثيثة لإزاحة القشور الطارئة عن ملامحها الضائعة، واكتشاف مكمن الجمال النائم وراء الأصبغة العصرية المزيّفة والتحديث العشوائي.
يصف عرابي مدينته الأولى بـ«المدينة السلحفاة»، بأخاديدها وأقواسها المخفية ومشربياتها. تحتَ الدرع الصلب، تختفي خصائص ومقامات لونية وصوفية تصل إلى مستوى الوجد والغبطة اللونية، ما يعني أن مقاصد هذا المصوّر اللافت في المحترف التشكيلي العربي، تتجاوز الطللية الفولكلورية لتؤكد مثالاً على«التدمير الإيكولوجي (البيئي) الشمولي الذي لحق بدمشق وعناصرها الجمالية».
لا تنفصل دمشق عرابي عن كائناتها ذات الأشكال الغائمة والشبحية، في حوار محتدم في اللون والخط لتوليف مشهدية باهرة، تستحضر «ألف ليلة وليلة» على الطريقة الدمشقية، تشتبك في ظلالها الذاكرة وخيال الظل والمنمنمات الإسلامية، لكن بعد إطاحة منظورها الهندسي في تجوال طليق للريشة، ما يحوّل المعنى إلى إشارة أو رمز لذاكرة جمعية بأقصى حالات الزهد والتقشف. هكذا، تستدعي اللوحة أكثر من سطح للتوغّل إلى عوالم سرّية تستبطن روح الأشياء والكائنات، من خلال زعزعة النظرة التقليدية وبناء ذاكرة بصرية تستمد خطوطها ومنظورها من مخزون حكائي في الدرجة الأولى. ذلك عبر استدعاء خريطة لونية صادمة ومدهشة ومتفلتة من المعايير التقليدية، نحو حساسية تعمل على الحدس والنشوة والهدم. وإذا بتكوينات هذا المصوّر تتكشف عن مقامات وتوقيعات شرقية بإحالات ما بعد حداثية، هي نتاج مخزونه في المحترف الباريسي، وخصوصاً لجهة تعويم الأشكال في فضاء لوني لا يتوقف عند حدود، بل يتجاوز إطار اللوحة إلى مرجعيات حكائية وميثولوجية وموسيقية. الخراب الروحي الذي تقترحه أعمال عرابي، تقابله ذاكرة مستعادة هي بمثابة نداء استغاثة لوقف نزف المدينة القديمة بعمائرها الطينية الغاربة، وتذكُّر صبواتها وبيئتها الأصلية بوصفها مدينة الحلم والأسطورة. تختزل رباعية «ليلة الدخلة» مشاغل عرابي السردية في تناوبها بين الشبقي والمحرّم. نساء بملاءات سوداء، وعروس بكامل زينتها ووشوشات وراء الشبابيك. فيما تتماهى الجدران المائلة مع ديناميكية الحدث وعبثيته في لعبة مرايا متضادة ما بين الداخل والخارج، وإزاحة البنى الهندسية للمكان بشطحات لونية متجاورة على شكل وحدات نغمية متصاعدة هي في المآل الأخير ترجيع لانفعالات سردية. انفعالات تنتهي إلى كتل لولبية تمزج ما هو متنافر بإقصاء التفاصيل والعناصر الثانوية والزوائد، في مغامرة لونية صريحة، تضع المتلقي في مهب الدهشة. إذ يحرث عرابي في سطوح مغايرة، تسبر فضاء اللوحة شاقولياً، من دون نقطة ارتكاز أو بؤرة ضوء. فالنور يتسلل من زوايا متعددة بنظرة ارتدادية وجامحة، كمحصلة لتشريح الفراغ، أو لعلها «محاولة حثيثة في استرجاع براءة التواصل مع نواظم الكون والغرائز التشكيلية الأولى في التصوير».
لا تنفصل شخوص هذا الفنان عن محيطها الميثولوجي إذاً، إذ تحتمي أسرارها تحت الأقواس والعتبات والأبواب في علاقات متواشجة وقدرية لجهة الاستلاب والعزلة والصمت. هكذا، تصير ذاكرة المكان صدى ترجيعياً لجملة مقولات فكرية تقترحها اللوحة على شكل تعويذات وأشباح وشبق مكبوت، ضمن توليفات متحوّلة ومحتدمة في عناق وجودي ساحر.
يقول أسعد عرابي، موضحاً خياراته الجديدة، «يحتل الباب دوراً أساسياً في تخطيط الفراغ، داعياً المشاهد إلى عبور عتبة المرئي إلى مساحة الأسطورة والحلم. وتنزلق هذه السياحة عبر ثلاثة أبواب: باب سور المدينة، باب الحارة وباب الدار. إذ يعتلي السلّم درجات الفلك الأعلى كأنه يعتلي ذاته، متجاوزاً الباب إلى قبة السماء، ثم يتطهر الإثنان (الباب والسلم) من وظائفهما المعمارية وينقلبان إلى إشارات معراجية».
معرض «شاميات» مرثية حارّة وشهادة علنية على همجية المدن الهجينة التي تقتلع تاريخها وذاكرتها لتقف في العراء، من دون أن تحصل على نسختها الحداثية. وإذا بها صورة مسخية وعرجاء للعولمة الطارئة والتدمير المنهجي للذاكرة. فهل يكفي الحنين وحده لإنقاذ مدن الحلم؟
خليل صويلح